الجمعة، فبراير 02، 2024

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن الهارب من بطش و تسلط أبيه، بسبب الذئب الماكر الذي أكل بعض الماشية، فرغم التحذير والوعيد إلا أن الطفل لم يكن مستعدا لهذا الامتحان الذي يتجاوز عمره. الحكاية الثانية تتحدث عن انخراطه في العسكر الفرنسي ومغادرة المغرب والمشاركة في الحرب ضد الفيتمين؛ وقد أبدى شجاعة مكنته من الحصول على نياشين تشجيعا له واعترافا ببطولاته. أما الحكاية الثالثة فتتحدث عن قصة حب بوعزة لكاترين وانتهائها بالفراق ليتزوج بوعزة بحليمة الحبيبة البديل ويكون معها أسرة كبيرة تتكون من سبعة أنفس. وضمن هذه الحكاية يرسم عادات وتقاليد المنطقة.

لقد امتدت أحداث النص روائي بفصوله الثلاثة لمدة تبلغ السبعين سنة، تنطلق من طفولة الشخصية المحورية لتصل إلى شيخوختها وتقاعدها عن العمل كحارس لمدرسة ابتدائية.

والرواية بمحطاتها الثلاث كانت فرصة للانفتاح على الفكر والتأمل واستنباط الحكم من تجارب الحياة، ولعل الأسئلة المبثوثة في حنايا المتن تؤكد حضور وعي الشخصية بما يجري حولها. والمثير للانتباه أن السؤال المحوري والهام جاء في قلب الرواية أي في الوسط مؤكدا بذلك أن الرهان يتمثل في السبب الذي يدفع أشخاصا الانخراط في صفوف جيش يستعمر بلدهم، ويقاتلون إلى جابنه شعبا لا يضمر لهم أي عداوة. فبدل مقاومة المستعمر يتم تقويته بالانخراط فيه، وإنجاح برامجه الاستعمارية والعدوانية.

ففي ص 110 يتعملق سؤال/ أسئلة: لم نحارب ولأجل من؟ والفصل بأكمله يتأسس علي هذا الوعي المنبثق من بين صلب الموت والحياة. وبه يتم الإندفاع لمواصلة القتال بتجديد عقده مع الجيش الفرنسي. كما أن تجديد العقد هو استمرار للفرار من الأهل و من البلد في ظروف الاستعمار القاهرة.


السؤال المنتصب وسط الرواية، إذا، هو بمثابة قلب العمل وروحه.

مشاركة المغاربة الجيش الفرنسي حروبه هو جزء من تاريخنا. واحتفاء به ويستوجب توثيقه. لا ينبغي إهمال مشاركة المغاربة في حروب المستعمر وما قدموه له هو ناكر الجميل.

مكونات الغلاف:

جاء الغلاف الأمامي باللون الابيض وقد حمل علامات لسانية وغير لسانية؛ فغير اللسانية تتمثل في صورة جندي بلباسه العسكري يحمل رشاشا ويضع قدمه اليمنى بوثوق فوق جذع شجرة يابسة؛ نظراته الصارمة تنظر إلى البعيد؛ وملامحه آسيوية. ثم يأتي القرص الأخضر وكانه علامة ضمانة تؤكد كما الصورة على واقعية الأحداث. في وسط أعلى الصفحة يرد عنوان الرواية باللغة الأنجليزية رغم أن المحارب ينتمي للجيش الفرنسي؛ وتحت العنوان تأتي ترجمته باللغة العربية وبخط عريض. مكتوب بالأخضر بخلاف العنوان الأنجليزي الذي كتب بالأسود كما اسم الروائي الذي تمركز يمين الصورة وفوق قرص الضمانة وباللون الاسود كتبت دار النشر.

وبالنسبة للعنوان يستشف منه أن السرد سيكون استرجاعيا باعتماده على الذاكرة بيد أن العناصر التي تخبرنا بواقعية العمل لا يمكنها أن تقف في وجه التصرف بالحكاية تقديما وتأخيرا.. إضافة إلى جدلية التذكر والنسيان؛ بمعنى إخضاع الحكاية إلى سلطة الاختيار؛ وإعادة ترتيب أحداثها وفق نسق سردي مخصوص فضلا عن اعتماد اللعبة السردية والمتجلية في التلاعب بالأحداث ضمن ترتيب يستجيب للفن الروائي. ثم إن اللغة ستعيد تشكيل الحكاية بضبط إيقاعها لتنسجم والفن الروائي.

وعليه، يمكن القول إن السرد هو نوع من اللعب بالحكي، أو هو «الحكي الممنهج» كما سمّاه تودوروف، حيث لا يملك الروائي إلا حيازة الأدوات التي تجعله صانعا مختلفا لذلك الحكي.

ورغم أن في «الحكي» شذرات سردية، إلا أنها تبقى محكومة بعوامل مشافهته للزمن وللمكان، وهو ما قد يتقاطع ورهانات «التأليف السردي» بوصفه عملا فنيا يتطلب وجود أدوات وخبرة وقدرة على تحويل الحكي إلى «نص» له شروطه البنائية وعوالمه وشخصياته، فضلا عن أن السرد كفعلٍ فني يُعيد ترتيب تشكّلات المكان والزمن والحدث، ضمن السياق الذي يتطلّبه فعل التأليف الروائي. *

أما إذا انتقلنا إلى الغلاف الخارجي فسنجد بالأعلى جهة اليمين عنوان الرواية بالأخضر حيث كلمة القديم تأتي تحت المحارب؛ كما ورد بالغلاف الأمامي لكن الحروف هنا جاءت بحجم اقل؛ وبعد ذلك يأتي مقطع صغير مأخوذ من الرواية وتحته على اليمين صورة المؤلف الشاب وجنبه على اليسار سيرته الذاتية بشكل مقتضب وتحتها عناوينه الإلكترونية للتواصل معه؛ وفي الأسفل على اليمين يحضر لوغو دار النشر وقبالته كود بار. تلك اهم مكونات الغلاف الأمامي والخلفي.



انطلاقا من مكونات الغلاف يتبين علي أن هناك تأكيدا علي واقعية الأحداث. كما أن النص الروائي يتضمن علامات تعبر عن ذلك منها أسماء المدن والدول كمكناس وتازة وزعير وباغود وستراسبوغ والمغرب وفرنسا وألمانيا والسنغال والفيتنام. وأسماء الشخصيات كالضابط بندريس وجاك شيراك وابن عرفة وغيرهم؛ وسرد بعض الأحداث التاريخية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية كإنزال النورماندي، وحدث الاحتفال باستقلال المغرب، فضلا عن التواريخ المثبتة والمرتبطة إما بأحداث عامة، وإما بأحداث خاصة لها مرجعيتها الواقعية المتحققة.. إلا أنه سيكون من الإجحاف عد الرواية واقعية بمعني النقل الحرفي والموضوعي لما وقع لأن ذلك لن يقود إلا إلى نسخ الواقع؛ وكل نسخ لن يكون سوى باهت؛ يفضل عليه الواقع الأصلي. 

من المؤكد أن أيّ رواية لا تخلو من الحدث ولا من الخبر، لكن ربط الخبر والحدث بفاعلية التمثّل السردي، هو الأفق المختلف الذي يتقشّر فيه الحكي، أو الحدث أو الخبر من مباشرته وعموميته، ليبدو في لعبة السرد مفتوحا ومكشوفا على مجاورات مغايرة، تستفز المكبوت والمقموع لتدفعها إلى ما يشبه كتابة الاعتراف، ليس للاتساق في سياق الزمن، بل في إطار الاشتغال الذي يتجاوز الحكي إلى لعبة السرد بوصفه تجاوزا قائما اصطناع سلسلةٍ من المباني التي تستدعي الأناسي والنفسي والاجتماعي، وحتى اللغوي بوصفه مجالا تتحرك فيه كثير من العلاقات والعلامات. **

العمل الروائي قيد القراءة يتكئ علي الواقع ليبني عوالمه التخييلية التي ترفع الحكاية إلى مصاف الفن الروائي باعتماد اللعبة السردية المتجلية في التصرف عن طريق الحذف والإضافة؛ والقدرة علي الوصف الدقيق المعبر عن النفس الإنسانية اثناء قوتها وضعفها. فالعمل الروائي جماع الواقعي والتخييلي.

صحيح أن السرد في معظمه كرونولوجي ينطلق من طفولة السارد بوعزة إلي حين كبره؛ لكن هذا السرد المتتابع يستضمر تلاعبا فنيا. فقبل الفصل الأول نجد أنفسنا في قلب المعركة مع ساردنا الذي عاش لحظات إغماء بفعل قنبلة نجا منها. لينفتح الفصل الأول علي طفولته القاسية وكيفية تخلصه من أسرته في هروب يستمر حتي حين يكبر وينخرط في صفوف جيش الاستعمار لمحاربة شعب لا علاقة له به. ثم يأتي مقطع يتحدث عن ابن السارد الذي يراسل فرنسا كي يحصل أباه علي معاش محترم كمعاش الفرنسيين، وهذا المقطع له علاقة بما سيرد في نهاية الرواية، مما يؤكد على بعد الرواية التخييلي القائم على التقديم والتأخير والمتحرر من سطوة الحكاية.

وبعد ذلك نجد أنفسنا في رحلة السارد مع الجيش الفرنسي مرة في الجبهة الهند الصينية ومرة في الجبهة الالمانية فالعودة إلي الجبهة الأولي ودائما هروبا من وطنه.. إن السرد يتكسر قليلا؛ وإذا كان قد اعتمد الاسترجاع بضمير المتكلم بغاية الإقناع بواقعية الاحداث فإننا نعثر علي الحلم والمقارنة والوصف والحوار بنوعيه. وهي من مقومات الرواية التخييلية.


لكن الرواية ظلت به مونولوجية بسبب اعتمادها على السارد الوحيد الذي أدار دفة السرد من البداية إلى النهاة بضمير المتكلم حتى يعطي صبغة الحقيقة على الأحداث ويؤد واقعيتها، ويجعلنا ننخرط فيها ونشاركه إياها. صحيح أنها فسحت المجال لبعض الأصوات كما في حكاية الألماني عن قناص من دولته يعيش لحظات صعبة وهو ينتظر ظهور الضابط السوفييتي، لكنه سرعان ما يستعيد زمام السرد والمبادرة.

لقد كان ساردا مشاركا ومهيمنا في الوقت نفسه، وفي هيمنته يشبه أباه الذي تميز بالقسوة والعنف في علاقته به، بخلاف صورة أمه الفقيدة التي تميزت بالرقة والعذوبة والرأفة والحب. ولن يكرر بوعزة صورة أبيه في علاقته بأبنائه وأحفاده، بل سيكون معهم عطوفا ومتفهما، الأمر الذي أثمر أسرة متماسكة وقوية، وجعل كل أفرادها ناجحين في حياتهم.

وليبعد الملل عن القارئ من لغة النار والبارود، تم تضمين الرواية قصة حب ترفع جفاف الأحداث العنيفة سواء تلك التي عاشها بوعزة في طفولته أم تلك التي خاضها في الهند الصينية وضد الالمان. قصة حبه كاترين جاءت بعد التحاقه بالالزاس وتعرفه على عبد الرحمن المتحدر من الأطلس إذ صار رفيقه في حياته هناك. يتنقلان بين الثكنة والمقهى وهنا وجد بوعزة محبوبته التي أدركت بحسها وحدسها الأنثوي معنى نظراته وساعدته علي التواصل معها بحركات ذات معنى وتركت له فرصة البوح ومن بعدها التواصل خارج فضاء المقهى حيث الرقيب. حكاية الحب هاته تمنح فرصة للسارد لكسب اهتمام القارئ والإبقاء علي تواصله ومتابعته لفصول الرواية كاملة. وقصة الحب هاته، حظيت بطول محترم إذ أخذت أربعة أجزاء أو مقاطع من الفصل الثالث والأخير.

تنتهي قصة الحب بانفصال العاشقين لاختلاف في تقييم مكان الإقامة؛ وتفضيل بوعزة العودة إلي الوطن ليتزوج بحليمة التي ستنسيه كاترين؛ وهو هروب من نوع آخر.

إن اختيار بوعزة العودة إلى الوطن وانفصاله عن كاترين رغم حبه لها نابع من نبضات العاطفة التي تغلبت على العقل، وباختياره هذا يؤكد أن الإنسان ليس محكوماً بالعقل بل بالرغبة، التي توصف بأنها النزوع للحفاظ على الكينونة.

 يلون بوعزة مستقبله باللون الوردي حيث يحلم أنه سيعيش سعيدا بماله وأرض أبيه؛ لكن الخيبة ستكون من نصيبه لقسوة أبيه المتجددة؛ فقد تصرف في أملاكه بشكل جنوني جعل الإرث يضيع كاملا.


وإذا كانت الغلبة للسرد الاسترجاعي فإن هذا الاستباق جاء للحد من سطوته ليكون للمستقبل حضورا ما وتلوينا فنيا ضروريا إلا أنه كان استباقا مخيبا للأفق؛ فقد توقع بوعزة كما القارئ أنه سيحصل على إرث سمين ينسيه عذابات الماضي لا سيما وأن أباه قد استقبله استقبالا عظيما في إحدى إجازاته حين يشتغل في الجيش الفرنسي، لكن العكس هو الذي حصل إذ حرمه وأخاه من الميراث.

النصّ الروائي نص مثير يمتحنُ ضمير الشخصيات ويهزّ القارئ بحكاية لها عواقب عميقة في عالم اليوم. كما أن الكاتب أتقن في سرده حدثا شبه مجهول، لم يتطرق له سوى القلة القليلة، في التاريخ المغربي؛ إنه حدث مشاركة الجنود المغاربة في حرب فرنسا ضد الفيتمين صحبة جنود آخرين من مستعمرات هذا الإمبراطورية الإمبريالية، ونضالهم لتسوية أوضاعهم وجعل معاشهم يساوي معاش الفرنسيين، وقد تحقق بفضل نضال قدماء المحاربين وبفضل الفن السينمائي والروائي في فترة حكم الرئيس جاك شيراك.

رواية مشوقة بلغة انسيابية ذات نفحات شاعرية، أما الأحداث فتميزت بالتسلسل والواقعية، جعلتنا نعيش  أهوال الحرب الهند الصينية وما يعيشه الجندي من مخاوف وأخطار أثناء عمله بفعل دقة الوصف الداخلي والخارجي، وأبرز مثال على ذلك قصة القناص الألماني وهو يترقب ظهور الضابط السوفييتي.

...

1_ المحارب القديم، رواية لتوفيق باميدا، عن دار النشر ملهمون. الطبعة الأولى سنة 2022.

• و** علي حسن الفواز، الرواية… سردنة التاريخ وفاعلية المُتغيّر، القدس العربي، الأحد 28 يناير سنة 2024

الاثنين، يناير 08، 2024

ارتسامات حول رواية المحارب القديم، لتوفيق باميدا

يتدفق السرد أحيانا دفعة واحدة، هو عبارة عن طاقة هائلة استجمعتها نفس السارد وهو يحكي الأحداث، لتتشكل صور وملامح رواية متكاملة العناصر والبناء، حيث تحتل فيه الشخصية المحورية وحكايتها " البؤرة" التي تتقاطع مع وحدات حكائية أخرى، لشخصيات ذات مصائر مختلفة، والتي تسمى في علم السرد بالحكاية :" الإطار"، هذا حال رواية:" المحارب القديم" للروائي المغربي توفيق باميدا، التي تتميز بقدرة صاحبها الفائقة على السرد، في بناء متدرج، يسعى إلى بناء وتشييد عالم روائي تتحقق فيه هذه العناصر، فالحكاية الأولى :" البؤرة" وهي حكاية الإبن الهارب من بطش و تسلط أبيه، إلى حكايات أخرى تتفرع عن الحدث الرئيسي، ( محاولة الهروب اليائسة من الأب المتسلط، الذئب الماكر المعارض لرغبات الولد في أكل القطيع). إلى العمل في العسكر ومغادرة المغرب والمشاركة في الحرب مع الجيش الفرنسي. "

- الكاتب والناقد الأستاذ حسين أيت باها

" في كل مرة اقرأ للاديب توفيق باميدا الا واجد مايكتب يلتصق بيدي لا افارقه الا بعد ان انهيه ،هكذا كان مع رواية المحارب القديم ،رواية بأنفاس پا بوعزة رحمه الله هكذا كنا نلقبه حارس مدرسة عائشة الصديقية بالرماني الرجل الطيب ذو الابتسامة التي لاتفارق محياه.

المحارب القديم تحكي قصة رجل قاوم بطش الاهل وتمرد على العائلة اختار الانضمام الى الجيش الفرنسي فكانت له بطولات فيه،رجل عاش الحياة كشاب وكشرت عن انيابها عنه ككهل وابتسمت له من جديد كشيخ .
لن اقول اكثر من هذا عن الرواية اترك لكم الاستمتاع بسطورها، فهي كتبت لابناء المنطقة اولا فاحداثها لاتغفل الحوامد و حارات الرماني ثم هي عن رجل لاتغفله الذاكرة الجماعية لابناء السبعينات ومابعدها، ثم هي كتبت لابناء جيل من المحاربين القدامى كابدوا الحروب و فرحوا بالانتصارات وفي الاخير عاشوا الانكسارات .
فلتنم مرتاحا في قبرك يا با بوعزة فلنا في هذه الرواية جميل ذكراك."

- الناشط الحقوقي الأستاذ العربي شفوق


" للتو انهيت القراءة الثانية لرواية" المحارب القديم"،هي سيرة روائية لطفل من دوار بوعياد الحوامد، بعد أن فزعه الذئب بافتراس عنزتي والده ،الذي سامه سوء العقاب، ضاق ذرعا بترصد الذئب المفترس، وقسوة الأب المتسلط، ركض بعيدا عن الدوار، تعرض لأهوال الغربة وهو صغير، جبال من الحزن والألم، يتجرعها كل قارئ عاطفي للفصول الاولى من الرواية، يحس فيها وكأنه هو الطفل المعني،يحس بذلك كل من خبر الهجرة والغربة، كم كان هذا الطفل صلبا ومقداما، دائم الركض خارج الدوار، الى ان واتته الفرصة والحظ في الانخراط في الجيش الفرنسي إيبان السنوات الأخيرة من استعمار المغرب ،عندما كانت فرنسا تجند أبناء المستعمرات للدفع بهم في حربها في مستعمرات الهند الصينية، أصبح طفلنا جنديا في ساحة الحرب بالفيتنام، ابلى البلاء الحسن "ابا بوعزة المنجيدي" وحاز الجوائز التقديرية عن إتقانه للرماية بالبندقية الرشاش، وافتكاكه لجندي من أسر العدو، واقدامه في معركة فاصلة، انتهت الحرب، وعاد بطلنا الى دوار بوعياد،حيث تزوج،واستقر به المقام في الاخير في مدينة الرماني حارسا في مدرسة عائشة الصديقية،لقد كان قريبا مني في مدينة الرماني، لم اتذكر ملامحه جيدا،ربما رأيته يوما يرافق أحد أبنائه الى الاعدادية، كان ابناه صديقي في الدراسة، شغفت بهذه الرواية، لأن أحداثها دارت قريبا مني، في بوعياد والحوامد والبطيمة،أماكن قريبة نفسيا ومكانيا من مسقط رأسي، انها العادات المشتركة لقبائل النجدة آنذاك، وفق كاتبنا بشكل كبير في ابداع هذه السيرة الروائية، صار بها في المنهج الذي اعتمده، أن ينقل بكل أمانة، سيرة المحارب القديم، دون أن يغفل بإضافة مسحة إبداعية على الأحداث، فعندما يصف وقائع حرب الفيتنام، تحس وكأنك تتفرج في فيلم حقيقي عن تلك الحرب، يضاهي الأفلام التي أرخت لتلك الحرب، وكأن احداثها مقتبسة منها، اعتمد لغة جزلة، تسلسل في الأحداث جيد ومشوق، وانتقال سلس بين الفصول، لولا ذلك الفصل الأول المجتزء من وسط الأحداث، ووضع في المقدمة، فصل يجعل القارئ يحس بعسر الدخول في أحداث الرواية، لأنه فصل يحكي عن معركة حربية فاصلة،خاضها بطل الرواية، وبعد مرور هذا الفصل تنفتح الرواية على فصول متسلسلة يتعاقب فيها الحزن والألم والهرب والحيرة والدهشة وركوب المجهول، والحرب والانتصار والهزيمة، والحب والأفراح والحياة الرتيبة، لا ضير في تقديم ذلك الفصل، لأنها أصبحت موضة في الرواية، وبذلك اكتسب كاتبنا ناصية الروائي المميز، وهو احتفاء مزدوج بالمجارب القديم، وبالكاتب الجديد، وهما من مجال مكاني واحد، هو ارض ازعير، يستحقان التكريم، فاسم "المحارب القديم" يجب أن تحمله إحدى مؤسسات أو شوارع قرية جمعة مول البلاد او مدينة الرماني، كما حملت مؤسسات اخرى أسماء مقاومين آخرين في مدينة الرماني ، وكاتبنا توفيق باميدا يستحق منا نحن عشاق الرواية أن نحتفي به، تقديرا لمجهوده الأدبي والفني في إماطة غبار النسيان عن أحداث ورجال كثر من ارض ازعير شاركوا في حرب "لاندوشين"، وطواهم النسيان، لا يمكن أن تتطلع لمستقبل زاهر إلا بالاحتفاء برموز الماضي، وأخذ العبرة منها، شهية طيبة لعشاق الرواية. "

- المحامي الأستاذ أحمد سلمان


" يعود توفيق باميدا مجددا لتيمة الحرب بعد قصته القصيرة "معركة" ومجموعته القصصية "عائد من الحرب"، برواية جديدة تحمل عنوان "المحارب القديم" تحكي قصة حقيقية عن شاب مغربي آثر جحيم الحرب في الهند الصينية على حياته البدوية المتسمة بالعنف الأبوي وضراوة العيش.

الرواية على قلة صفحاتها، عرضت لحياة امتدت لما يربو على سبعين سنة، نقلها الكاتب بشكل غير خطي متنقلا بسلاسة بين عدد من مراحلها دون أن يُفقد القارئ تسلسل الأحداث. فتارة نجد أنفسنا في مرحلة الطفولة، عند عهد الاستعمار، حيث تشكل الأرض وما عليها من خيرات الكنز الثمين للإنسان. فنرى الأب يمارس شتى أنواع التنكيل على طفله الذي قصّر في مهمة رعاية الخرفان حتى افترسها الذئب. وتارة أخرى نجد أنفسنا وسط أجواء حرب خاضها شبان مغاربة لا يدرون أي شيء عن حيثياتها.
الجميل في الرواية هو تفاصيلها الصغيرة. ففي لحظة سمر للجنود، نلمس لدى إحدى شخصياتها الجديدة على عالم الحرب قلقها من التسبب في القتل، مقابل شخصية أخرى قضت سنوات طوال على أرض المعركة حتى صار القتل عندها طقسا ممتعا تتشوق إليه حتى لو لم تكن القضية قضيتها.
تفصيل آخر مهم، فبعد نهاية الحرب بسنوات طوال وعودة بطل الرواية إلى وطنه وبناء حياة جديدة، نراه قد فقد كل أمل في الحصول على معاشه من الدولة الفرنسية وهو الذي خبِر هذا البلد وعرف طباع أصحابه، مقابل ابنه الشاب المنبهر بالغرب، والذي لا يتوانى عن بعث الطلبات والاستعطافات مؤمنا أن الحقوق لا تضيع عند هؤلاء.
ثم هناك الذئب، الذي تكرر غير ما مرة في الرواية، والذي أراه كرمز لكل ما يعيق الإنسان في هذه البلاد ويقف أمامه حجر عثر مذيقا إياه الويلات ودافعا إياه إلى الجحيم والتفكير في الهرب. "


- المخرج الأستاذ المهدي المحجوبي


" أنهيتُ قراءة رواية المحارب القديم للكاتب والروائي توفيق باميدا.
رواية مشوقة، لغة واصفة دقيقة، أحداث متسلسلة وواقعية، تقربنا من فترة الاستعمار، وتصف لنا بدقة أهوال الحروب وما يعيشه الجندي من خوف وخطر أثناء عمله وتهميش وإقصاء بعد إنهاء عمله.
تستحق القراءة. "

- المبدع الأستاذ أشرف قريطب




" شكرا على هذا السفر الرّائع،

"استمتعتبرحلة بوعزة (صاحب العز والعزةومعاناته مع "الذئاب" (وضعت استمتعت بين معقوفتين لأنّ جمالية النص تمنحك متعة، لكن قسوة "الذئابتجعل تلك المتعة مصحوبة بالآلام).

لكن الأهم من خلال هذا السفر مع الشخصية الرئيسية للرواية هو ما تعلمته شخصيا من بوعزة ومن هذا الخيال الرائع الذي تتمتع بهتذكرت، والصحيح، تعلمت مجموعة من القيم كالصبر والإلحاح والصدقكل هذه القيم وغيرها التي وردت في هذا النص الجميل لم تعد يا للأسف ديدان حياتنا في زمننا.

هذا العمل الإبداعي يوقظ فينا الجمال الإنساني الذي حبا به الله البشرية جمعاء في سياق لم يعد فيه للجمال معنى أمام لغة المال. "


- الأستاذ مصطفى المناصفي

الثلاثاء، ديسمبر 31، 2019

عندما تُسلب حرية الإبداع - قراءة مختصرة في رواية ضجيج العصر لجوليان بارنز


يعتبر جوليان بارنز من كتاب ما بعد الحداثة في الأدب الإنجليزي. وتتميز كتاباته الروائية بسبر ذاكرة أبطاله، ووصف حالاتهم النفسية والذهنية عبر أزمنة مختلفة من حياتهم. كما أنه يتجنب الاعتماد على الأساليب الكلاسيكية في الحكي، إذ يميل إلى استخدام تقنيات تيار الوعي.  ويناقش القضايا بعمق ورؤية فلسفية، تتطلب تأنيا من القراء عند تناولها. كما فعل في روايته الإحساس بالنهاية المتوجة بجائزة مان بوكر 2011.
وفي آخر أعماله المترجمة إلى العربية؛ رواية "ضجيج العصر"، ينطلق جوليان بارنز من سيرة حياة الموسيقار الروسي ديمتري شوستاكوفيتش، ليصوغ لنا رواية تأمليّة في علاقة السلطة بالإبداع الفني، خلال فترتي حكم ستالين للاتحاد السوفييتي وما بعدها.
يغوص بارنز في ذاكرة بطل الرواية، شوستاكوفيتس، فيجعل الأحداث والأفكار تقفز بنا إلى أزمنة مختلفة. ففي كلّ مرّة يكون رجوع إلى الخلف وتقدّم ثمّ رجوع آخر. فيكون عليك أن تتريّث قبل أن تبدأ في نسج خيوط الأحداث.

بارنز قسّم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: في الرواق، في الطائرة، في السيارة. لكلّ مكان في هذا التقسيم دلالته التي ترتبط بما ينعته بارنز بمحادثات السلطة الثلاث. هي تختلف عن بعضها في كيفيّة وزمن الحدوث، لكنّها تصبّ جميعا في اتجاه نفس الهدف، وهو إعادة صياغة ديمتري شوستاكوفيتش على المنوال الذي تريده السلطة.
"أرادوا هندسته كما فعلوا مع البقيّة. أرادوه أن يعيد صوغ نفسه، كعامل مستعبد في قناة البحر الأبيض. " (ص.: 111)
 محادثات السلطة الثلاث
§      المحادثة الأولى:

منذ البداية يكشف لنا الكاتب عن السبب الرئيسي الذي سيدخل شوستاكوفيتش في دوّامة الصدام بالسلطة، والذي تجلّى في عدم إعجاب السلطة، في شخص ستالين، بأوبراه: 

"السيدة ماكبث من متسنسك". لذلك نجد أنّ بارنز قد تعمّد وضع القارئ داخل مشهد عزف الأوبرا على مسامع ستالين ورفاقه، وكيف جاء مباشرة ردّ فعلهم. 
الآن، ينقلب كلّ شيء رأسا على عقب بالنسبة لشوستاكوفيتش. فصحيفة البرافدا، التابعة للحزب الحاكم، تصدر مقالا ينال من أوبراه، إذ وصفتها ب"الضجيج بدل الموسيقى"، وجعلت منه هو "عدوّ الشعب". وقد كان هذا كافيا لأن يجعل النقاد الذي أشادوا بالأوبرا في البداية ينقلبوا ضدّه، منوّهين بما قالته البرافادا، رغم النجاح الذي حقّقته الأوبرا خارج الاتحاد السوفياتي، بل إنّ السلطة رأت في ذلك النجاح دليلا قاطعا ضدّ صاحبها. فكانت النتيجة أن تمّ حظر أوبراه: "سوف تقعّد أوبراه الآن كما كلب أغضب سيّده فجأة فأمره بالقعود". ولمّا كان شوستاكوفيتش مقرّبا من شخص مدان (المارشال توخاشفسكي) كانت النتيجة أنّ تحرّك السلطة آلتها البيروقراطية فتخضعه للاستجواب والتحقيق في مؤامرات سياسية.
بالنسبة للموسيقيّ الشاب، وفي ظلّ التصفيات الجسدية والمنافي، فحياته قد انتهت. وقد برع الكاتب في وضعنا أمام صورة شوستاكوفيتش وهو يقضي الليل بالرواق عند باب المصعد بمحلّ سكناه، يحمل حقيبة أغراضه، منتظرا أن يجيء رجال السلطة لأخذه قصد التصفية أو النفي. وهنا لم يفت بارنز، أن يزيد مشاعر القلق نضجا في خيال القارئ، حين أشار إلى أن شوستاكوفيتش يفعل ذلك حماية لزوجته وابنته النائمتين من أن تطالهما أيضا مخالب السلطة.

§      المحادثة الثانية:




ينقلنا بارنز الآن إلى الطائرة، عبر رحلة شوستاكوفيتش من روسيا إلى الولايات المتّحدة، في إحالة على الحرب الباردة، وكيف أنّها تلقي بظلالها أيضا على عالم الموسيقى. لذلك قد يصير الملحّن الموسيقي عدوّا يشكّل تهديدا للنسق الإبداعي الذي تفرضه السلطة على الكتاب والفنانين وغيرهم، فتبدأ السلطة بإيجاد حلول، للنيل من هذا الخصم المفترض مستخدمة أمكر الحيل، ببساطة تجعل من ديمتري شوستاكوفيتش أحد ممثلّي الاتحاد السوفياتي بالمجلس الثقافيّ العلميّ للسلام العالمي بنيويورك، يلقي خطابا أعددته له آنفا، عبره ينتقد موسيقاه وموسيقى آخرين لا طالما قدّرهم. وبذلك، يعطينا الكاتب انطباعا إلى أنّ السلطة تعمد على تطويع المتمردّين على النهج الموسيقي الذي تحدّده هي، بالدفع بهم إلى الاعتراف بزلّاتهم، والكفّ عن إبداعات تروم الفردانية وتتعارض مع الفكر المجتمعيّ المشترك: "السلطة إمّا أن تقتلك أو تلحقك بك العار".
§      المحادثة الثالثة:
يحدث ذلك في زمن آخر. إذ يبدو أنّ شوستاكوفيتش وقد تقدّم في العمر، يجلس في المقاعد الخلفيّة لسيّارة بسائق تحت الخدمة. فبعد وفاة ستالين، تجيء حقبة جديدة، مغايرة.  هذا ما يبلغنا به بارنز مباشرة. ويتنفّس شوستاكوفيتش الصعداء. لكن السلطة، مع كلّ التغييرات التي طرأت، ما تنفكّ تعود إليه، وتعرض عليه بإلحاح منصب رئيس الاتحاد الفدرالي الروسي للملحنين. وبينما هو يتشبّث بالتملّص من ذلك، تخبره السلطة عبر رسولها "بوسبلوف"، أنّ عليه أوّلا الالتحاق بالحزب الشيوعي. يستميت شوستاكوفيتش هذه المرة أمام السلطة، لكنّ ضغط  بوسبلوف كان رهيبا: "تحت ضغط السلطة، تتصدّع النفس وتتشقّق".

§      محادثات من جانب واحد:
بعد ذلك اسمترّت السلطة في الحديث إلى شوستاكوفيتش، ليس كالمرات السابقة. الآن، هو يصغي فقط وينفّذ. على وجه التحديد هو يوقّع باسمه مقالات ستنشر في البرافدا، لم تخطّها أنامله، تنال من موسيقيين وكتاب، رغم تقديره لكثير منهم.

تعبّر هذه المحادثات، عن الترويع الذي يتعرّض له الإبداع في ظلّ سلطة لا تريد سماع غير صدى صوتها، تردّده الجماهير خلفها، فتحرّك لأجل ذلك دواليبها، لإحكام السيطرة، والنيل من أيّ صوت آخر، مهما كان صغيرا، تشكّ في أنّه قد يربك الأداء العام لأوركستراها أثناء عزف سيمفونيتها.
شوستاكوفيتش، كنموذج عن ذلك، كان حالة إنسانية هشّة واجهت وحشا ضاريا. لذلك نجده (شوستاكوفيتش)، يغوص في ذاته بحثا عن أجوبة لأسئلته وعن مبرّرات لأفعاله. لقد رأى نفسه جبانا، مادام على حسب رأيه، قد عجز عن الانتحار وعن المواجهة. لكنّه في المقابل، وجد مبرّرات لذلك: "لكن لم يكن من السهل أن تكون جبانا...، لأن تكون بطلا عليك ان تكون شجاعا للحظة فقط... لكن، لأن تكون جبانا، عليك أن تقبع في مهنة تستمرّ مدى الحياة." (ص.: 185). ووجد مبرّرات أيضا لإمكانية أن يجمع الإنسان بين صفتي الفساد والصلاح في نفس الوقت، مادام هو واثقا من كونه صالحا. بينما قد يراه الناس، حسب ما جعلته السلطة يقترف، شخصا فاسدا.
ضجيج العصر رواية عن ماهية الفنّ، عن الحقيقة، عن الحرية، وعن الوعي، عن معاني الشجاعة والجبن، وعن آخر ملاذ يمكن أن يبقى أمام إنسان سُلبت حياته وروحه في مواجهة منظومة سلطوية تمتلك من أصناف طرق الترويض ما يجعل الصمود أمامها أمرا صعب المنال.

* جوليان بارنز: روائيّ إنجليزي من مواليد 1946. عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوميعتبر من كتّاب ما بعد الحداثة في الأدب الإنجليزي. فازت روايته "الإحساس بالنهاية" بجائزة مان بوكر سنة 2011.
** ضجيج العصر: صدرت الطبعة الأصلية سنة 2016، بينما صدرت النسخة المترجمة، سنة 2019 عن "مجموعة كلمات"، الشارقة. ترجمة: عهود المخيني.



"توفيق باميدا"

الاثنين، سبتمبر 17، 2018

إصدار جديد: شهريار يحكي ويقص - رواية

شهريار يحكي ويقصّ:
 
"في البداية تكون الحكاية، وفي النهاية أيضا. هذا ما صرت أؤمن به. وبرأسي حكايات كثيرة، خلفها تتوارى تلك التي أسميها حكايتي
خمس سنوات تلك التي أمضيتها بهذا المحلّ، بهذا الحيّ، بهذه المدينة. خمس سنوات قضيتها مع هؤلاء الناس، مع هذه الحرفة، في هذا العالم الاستثنائي الذي جعلني أعيش بحكايات الناس وأنسى حكايتي، حتّى ظننتني شهريار زمانه، الذي يتلذّذ بسماع الحكايات قبل أن يضرب بمقصّه آخر شعرة زائدة على رؤوس زبائنه. حكايات صارت تجري جريان الدّم في شراييني، تعمر ذاكرتي، وتثير خيالي. حكايات توقظ فيك شغف الطفولة في تتبّع تفاصيل حكايات الجدّات، حين تنتصب الأذنان في انتباه، ويَسيل الفضول لعابا لا يجفّ إلا بطرح سؤال جديد، قد يُزيل بعض الغموض عن شيء مثير للاهتمام."







الأربعاء، فبراير 18، 2015

عائد من الحرب (قصة قصيرة) - توفيق باميدا -


                    (ملحوظة: هذه القصة تحتوي على مشاهد قد يعتبرها البعض مؤلمة أو صادمة)
*******************************************************
إهداء:
إلى كلّ ذي ضمير وإحساس، يتمنّى أن يتوقّف شيء بالغ البشاعة اسمه: الحرب
*******************************************************
اليوم أعود من الحرب. ولا أريد أن أتحدث عن الحرب.
تستقبلني القرية محتفلة مبتهجة، بينما عقلي يطير إلى قرى أخرى ودواوير أعلم أن  نساءها الآن يلطمن وجوههن ويواري رجالها دموعهم عن أنظار أبنائهم، لأن أبناءهم الذين كانوا رفقتي على خط النار لم يعودوا أو عادوا في صناديق.
لا أريد أن أتحدث عن الحرب، لكن جدتي وبعد أن قبّلت رأسي وأطلقت زغرودة أيقظت شعر جسدي المتحفز تسألني:
                     · هل طردتم العدو يا بني؟
أنظر بعيدا عنها دون أن تسمع مني ردا.
أُخذنا إلى بلد آخر لنحارب العدو، شهورا ظللنا هناك نتطاحن معه حتى أُخبرنا أنه قد عاد من حيث أتى، فعدنا نحن أيضا من حيث أتينا. ثمّ أُعلن أننا حققنا النصر. لكنني لم أتذوق طعمه، أقصد طعم هذا النصر.
حين كنت أرى مجموعة من الجنود تفرّ مذعورة من فوهة مدفعيّتي منسحبة إلى الخلف لم يكن يبلغني الإحساس بهذا الطعم. صغيرا، حين كنت أسجّل هدفا في مرمى الخصم أو نفوز في مباراة أو عندما ألتقط اسمي ضمن لائحة التلاميذ الناجحين أو حين يقتني لي أبي أو أمي لباسا جديدا أو لعبة، كنت أتذوق هذا الطعم الجميل، مزيج من نشوة الظفر وإحساس بالفخر. لكنني وأنا أسحق العدو بقنابل مدفعيّتي أو يزدان كتفي بنياشين برّاقة، أو عندما تستقبلني القرية بالزغاريد والزهور، لم أجد في كل هذا ما قد يدفع بتلك الأحاسيس لتلامس قلبي الذي لم أعد واثقا إن كان لا يزال موجودا في صدري.
تأخذني أمي بقوة بين أحضانها، فيحسسني الدفء المنبعث من أرجاء جسدها أني ما زلت ذاك الطفل الصغير الذي كلما تلقى أمرا لا يسرّه عاد ليرتمي بين ذراعيها ساكبا دموعه وشكواه. ولولا تلك العيون التي التفت من حولي متطلعة إلى هذا العائد لتوّه من الحرب، لبكيت الآن على صدرها بكاء لا أدري أتروي مياهه نبات الأرض أم تحرق نيرانه زهورها.
لا أريد أن أتحدث عن الحرب... بل لا أريد حتى تذكّرها، لكن الفتى الأشقر الذي وقف الآن عند الباب بقامته المتمايلة كجريد نخل صمّم أن يبقيها حاضرة بوضوح، بألوان طبيعية وأبعاد واقعية، فرأيتني واقفا عند مدفعيتي محاطا بالرفاق محفّزين لأي أمر، بيد أن الأمر انطلق من الجهة المقابلة، تلاه انبعاث لمجموعة من المشاة، لم ندر من أيّ جهة نبتوا. كانت فكرة ذكية لم نستوعب حركاتها إلا حين صار رجالنا يتساقطون تباعا. لينطلق نداء قائدنا متأخرا متكسّرا، قطّعت أصوات البنادق حروفه:
                     · ا...ن...س...ف !
حين أفاقت أذنيّ من الصمم الذي طمس على طبلتيهما انفتح بصري مباشرة وفوهة مدفعي موجهة صوب جندي ببندقية يركض نحوي. فتى أشقر نحيف، خطواته طويلة أو هكذا بدت لي حينها، شعر رأسه الأصفر كان ناعما، لاحظت ذلك في خصلات شعره التي تدلت من تحت خوذته فوق جبهته وعنقه، كان وجهه وسيما وشيء من براءة الطفولة لم يغادره بعد.
انبعث مرة أخرى صوت القائد يشق هذه المرة بقوة وكل وضوح الضوضاء المسيطرة، ويشق سمعي وكأن الأمر موجّه لي دون غيري:
                     · انسف!
أنا لا أريد أن أتحدث عن الحرب...
 التمّ حولي صبية القرية متعطشين أن أحدثهم عنها، يتبادلون النظر إلى الصورة التي سلّمتها أمي لهم. صورة تظهرني جالسا فوق سطح مدفعيتي أرفع بندقيتي نحو السماء بينما ترتفع بسمة عريضة على وجهي، أذكر أني أخذت هذه الصورة عند التحاقي بخط النار، كانت الأولى هناك والأخيرة، لأني لم أعد بعد ذلك أرغب في التقاط صور، باستثناء تلك التي تُأخذ لنا ونحن في النظام أو عائدين نحمل رايات النصر.
ظل الصغار يطرحون عليّ الأسئلة، ثم يعودون للهمس في آذان بعضهم:
                     · لماذا لا يردّ؟ لماذا لا يتكلم؟
ناولتهم بعض الحلوى التي وُزّعت علينا ليلة إعلان النصر، حيث لم يستسغ  حينها حلقي المملوء غُصصا حلاوتها الزائدة، فاحتفظت بها في علبة بلاستيكية.
                     · إنها لذيذة!
صاح أحد الأطفال قبل أن يمضوا مبتهجين بها بعيدا عني.
بل أنا لا أريد حتى أن أتذكر الحرب... لكن الفتى الأشقر المار قريبا من مجلسي بهامته المنكسرة يأبى إلا أن يعيد ذاكرتي إلى هناك.
مضت ثلاثة أيام من رجوعي إلى القرية. ولايزال لساني عاجزا عن تركيب العبارات، فقط بعض الكلمات المتزاحمة. لكنّي كنت أتكلم في مكان آخر. حينها، يرتفع صوتي بقوة متجاوزا جدران دارنا، فيسمعه كثير من الجيران المستيقظين أو المتنبهين في نعاسهم، لأن صوتي لم يكن يرتفع إلا حين يكون الجميع نياما. وفي الصباح تحكي لي أمي وجدّتي كيف كانت جدران البيت ترتج من هول صراخي وكيف كانوا هم يقفزون من مضاجعهم مذعورين تكاد قلوبهم تغادر أقفاصها. محاولين بعد أن تستوعب عقولهم الغارقة في دهاليز النوم ما يجري حولهم، أن يفكّوا شفرات الكلمات المتقطعة التي تندفع كقذائف الذبابات من جوفي ثم تتساقط شظايا مشتعلة على أحلام من بلغهم مدى صوتي.
لا أريد أن أتحدث عن الحرب، ولا تذكرها حتى، لكنها وفور دخولي القرية عادت متنقلة من الزمن المنصرف لتزور مناماتي، فتحلّ بثقلها ناسفة برعم أي حلم في طور تشكله وغازية أرض أي نومة هادئة. ثم أصبحت كوابيس الليل مع مرور الوقت تتراكب بكثافة عجزت عن استيعابها المساحة المخصصة لها في ذهني، فصارت عيناي تنفتحان فجأة لتكملا متابعة المشاهد التي تعرض من حولي بين جدران الغرفة النائمة في السكون والظلام، كمن يتابع فيلما أنا خلاله بطل اقتصرت مهمته على القتل. ومن لم أقتله حقيقة في المعارك قتلته في كوابيسي، ومع كل رمية قاتلة كان صراخي يرتفع بين دهاليز أحلامي البشعة. حتى إذا تخلصت من كل الأعداء ولم يُروَ ظمئي بعد من الدماء وجهت فوهة مدفعيتي أو رشاشي نحو رفقائي دون أن أعير استغاثاتهم واستعطافاتهم أدنى اهتمام. ثم أصرخ مرددا عباراتهم المستنجدة، أصرخ لأوقظ من نام على الجنب المريح من أهل قريتي. ثم ينبعث في المشهد الأخير كل قتلاي من موتهم. يتهافتون عليّ ليغرسوا أظافرهم وأنيابهم في جسدي. تمتد أيديهم لتضغط بقوة على عنقي، تخنقني فأحاول الصراخ فلا أستطيع. ثم ينهشون جسدي. يبترون أعضاءه فلا يشفى غليلهم مني. أصرخ وأصرخ فتهتزّ جدران بيتنا وكأن زلزالا حلّ ليطهّر الأرض من الدناءة التي قبحت وجهها الجميل.
لا أريد التحدث عن الحرب. لكني حين أخرج للتجول عند أطراف القرية صباحا أو مساء، لا تستطيع عيناي أن تستمعا بالجمال الذي يغطي تلال البادية المجاورة، ولا أذنيّ أن تطربا بالهدوء المسافر بسكينة في السماء، والمنبعث بإصرار من كل الأشياء المحيطة بممشاي، لأني حينها أكون واقفا عند مدفعيتي أتأمل بذهول الجثث المتناثرة والآليات المحترقة والتراب الذي لم يستسغ شرب اللون الأحمر. أتمعّن دون انقطاع وجوه رفاقي التي لم تعد تنطق بشيء أو تنبض بعرق. لقد انتقل تشوه الحرب إلى قريتي الجميلة الهادئة فلم أعد أرى حولي غير أجساد بأعضاء مبتورة ووجوه محترقة وملامح اختلط بعضها بالآخر، فيتملكني تصميم أكبر على أن أحتفظ بخيار الصمت كلما سألني أحد أن أكلمه عن الحرب.
لا أريد أن أتحدث عن الحرب، لكني ربما سأكون مضطرا لذلك، لأن الفتى الأشقر اقتحم صمتي وأيقظني من ذهولي حين سألني:
                     · هل من الممكن أن تندلع حرب أخرى قريبا؟
أحرر لساني من انعقاده القديم بسؤال حفظته عن قادتي:
                     · ولماذا تسأل؟
                     · أريد أن أكون مثلك، محاربا، أتغلب على العدو وأطرده، ثم تحتفل القرية بعودتي منتصرا.
اقشعر بدني وأحسست أن الدموع ستندفع من مسام جلدي، بينما كان كثيرون من أهل القرية قد التفوا من حولنا يترصدون حديثي الذي انتظروه منذ يوم عودتي. نظرت في عينيّ الفتى نظرة عميقة لم يقطعها رمش عين بينما بذهني تتجمع جميع الأزمنة.
                     · لقد كان مثلك، يشبهك كثيرا، كأنك هو وهو أنت. كان يركض شاهرا بندقيته نحوي، دون أن ينتبه ربما إلى أنه كان في مرمى فوهة مدفعيتي. كان رفاقي يتساقطون من حولي، ورأسي يزداد انتفاخا بأمر يردده قائدي، وهو يركض صوبي، في مثل سنّك، هامته كهامتك، شعر رأسه كشعر رأسك.
توقفت عن الحكي، فأنا لا أريد أن أتحدث عن الحرب، لا أريد أن أتذكرها حتى، خصوصا هذا الجزء منها. نطقوا جميعا في صوت واحد، وكأنهم يرغمونني على الإكمال:
                     · ثم ماذا؟
فأجبت، مرتعشا، باكيا:
                     · ثم نسفت رأسه !
*********************************************************

- توفيق باميدا - (2011)                                                          "تابعونا على فايسبوك من هنا"

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن ...